اكتشاف قبر أفلاطون يكشف أسرارًا جديدة من برديات هيركولانيوم المتفحمة

المؤلف: سامية علي11.02.2025
اكتشاف قبر أفلاطون يكشف أسرارًا جديدة من برديات هيركولانيوم المتفحمة

إن المخطوطات وبقايا التراث الإنساني ليست مجرد أوراق صفراء باهتة، أو نصوص جامدة، بل هي بمثابة بوابات مشرعة على عوالم غابرة، ومنارات وضيئة تضيء لنا دروب الماضي. إنها تقدم لنا فرصة فريدة لاستكشاف أعماق النفس الإنسانية، وفهم التأثير العميق للتاريخ والثقافة على تشكيل الهوية الفردية والجماعية. وتعد أيضاً رحلة استثنائية في عالم زاخر بالتنوع والثراء، حافل بالتجارب والدروس القيمة التي أسهمت في تطور الإنسان وتقدمه على مر العصور.

في هذا العالم العجيب الذي يكتنز الأساطير المدهشة، والحكايات البطولية الملهمة، وقصص الحب الخالدة، ومعارك الحرب والسلام، نجد حكايات لا تحصى تجسد تجارب البشر وصقلهم الروحي. إن التراث الإنساني، بعظمته وتشعبه، يشكل مخزوناً هائلاً للمعرفة عبر العصور، من الحقبات القديمة إلى العصور الحديثة. كما يحتضن مساهمات جمّة من علماء بارزين، وفلاسفة لامعين، وفنانين مبدعين، ومبتكرين عباقرة، عبر مختلف الحقب التاريخية، وهذه المعارف القيمة تسهم إسهاماً فعالاً في تقدم البشرية ورسم مسارها نحو مستقبل أكثر إشراقاً وازدهاراً.

تراث إنساني مشترك

تتجلى فنون التراث الإنساني بأوجه متعددة، سواء في فنون الرسم الساحرة، أو الألحان الموسيقية العذبة، أو الأدب الرفيع، أو الهندسة المعمارية الشامخة، كمرآة تعكس مشاعرنا النبيلة وأفكارنا العميقة. فهي ليست مجرد وسيلة للتعبير الفني الراقي، بل هي أيضاً تجسيد للقيم السامية والعادات الأصيلة التي تنتقل عبر الأجيال المتعاقبة، مما يساهم في تذكيرنا بجذورنا العريقة وتعزيز ارتباطنا الوثيق بها.

وهناك شخصيات تاريخية فذة تتجاوز أهميتها حدود الدول والشعوب التي تنتمي إليها، لتصبح جزءاً لا يتجزأ من تراثنا الإنساني المشترك، ورموزاً عالمية تحتذى.

ومن جانب آخر، تشكل الاكتشافات العلمية الهامة جزءاً أساسياً من هذا التراث، حيث تجسد التقدم المعرفي الذي لا تعوقه حدود جغرافية، ليصبح إرثاً قيماً للبشرية جمعاء تستفيد منه.

يعد الفيلسوف اليوناني الشهير أفلاطون، أحد أعظم الفلاسفة في التاريخ الإنساني، وشخصية استثنائية تجاوزت أفكاره النيرة وفلسفته العميقة الحدود الزمانية والجغرافية لتصبح مصدراً للإلهام يهتدي به العالم أجمع. وتعتبر إسهاماته الفلسفية من أروع ما أبدعه الفكر البشري، حيث تمكن من صياغة أفكار ومفاهيم سبقت عصره وتفاعل معها الناس على مر القرون. ومع ذلك، وعلى الرغم من أهمية أفلاطون التاريخية وتأثيره البالغ، ظل مكان قبره لغزاً محيراً من بين الألغاز التاريخية التي استمرت في إثارة فضول العديد من الباحثين والعلماء عبر الزمن.

حل اللغز

كانت المحاولات الدؤوبة للعثور على مكان قبر الفيلسوف اليوناني أفلاطون جزءاً من مساعي البحث الأثري المتواصلة، حتى تمكن العلماء أخيراً من فك هذا اللغز المحيّر والكشف عن موقع دفنه. وقد تزامن هذا الاكتشاف مع الكشف عن مجموعة من المخطوطات النفيسة بالقرب من جبل فيزوف، البركان الأشهر في التاريخ، والتي أطلق عليها اسم "برديات هيركولانيوم المتفحمة"، والتي كانت تستخدم في العصور القديمة كأداة للكتابة والتوثيق. وفي نهاية المطاف، كشفت البرديات أن أفلاطون قد دفن داخل حديقة الأكاديمية في أثينا، وهي المدرسة الشهيرة التي أسسها عام 387 قبل الميلاد.

هذا الاكتشاف الهام تحقق بفضل الجهود المضنية التي بذلها الباحث الإيطالي القدير "جرازيانو رانوكيا" من جامعة بيزا، وذلك أثناء عرض النتائج متوسطة المدى لمشروع بحث "المدارس اليونانية". وباستخدام تقنيات وأساليب مبتكرة وحديثة، تمكن الباحثون من استنتاج وترجمة أكثر من ألف كلمة، وهو ما يمثل حوالي ثلاثين بالمائة من النصوص المحترقة.

ومما يزيد من أهمية هذه المخطوطات أنها كشفت أيضاً تفاصيل جديدة ومثيرة عن حياة أفلاطون، حيث أشارت إلى أنه قد بيع كعبد في جزيرة إيجينا في فترة مبكرة من حياته، ربما في عام 404 ق.م، عندما غزا الإسبرطيون تلك الجزيرة، أو في عام 399 ق.م، بعد وفاة سقراط.

ثوران بركاني مدمر

في عام 79 م، بينما كان سكان المدن الواقعة جنوب نابولي، مثل بومبي وهيركولانيوم وستابيا، منغمسين في أنشطتهم اليومية المعتادة، وقع ثوران بركاني مروع وغير مسبوق. تدفقت الحمم البركانية والرماد والصخور الملتهبة بكثافة على المناطق المحيطة، مما أدى إلى تدمير كل ما واجهها، من منازل شامخة إلى أشجار باسقة وحتى الأشخاص الأبرياء. وقد أسفر هذا الثوران البركاني المأساوي عن مشهد كارثي قام بتوثيقه الكاتب الروماني القدير بليني الأصغر في رسالتين مؤثرتين كتبهما إلى صديقه كورنيليوس تاسيتوس، المؤرخ الروماني الشهير وأحد أشهر الكتاب في العصور القديمة.

في هذه الرسائل، وصف بليني الأصغر الأحداث المفجعة لثوران فيزوف، بما في ذلك الوفاة المأساوية لعمه الأكبر، المؤرخ والفيلسوف ورجل الدولة الروماني المعروف بليني الأكبر، الذي لقي حتفه اختناقاً في ستابيا بينما كان يحاول تقديم العون والمساعدة لسكان المدينة الذين تدفقوا على الشواطئ هرباً من الحمم البركانية والرماد المتطاير.

يقدم هذا التوثيق التاريخي القيّم لمحة موجزة عن حجم الدمار الهائل الذي أحدثه بركان فيزوف، وكيف أدى إلى طمر مدن بأكملها تحت طبقات سميكة من الرماد والحمم البركانية. كما أن شهادة بليني الأصغر تبرز مدى تأثير هذه الكارثة الرهيبة على حياة الناس في تلك المناطق، وكيف واجهوا واحدة من أكثر الكوارث الطبيعية تدميراً في التاريخ القديم.

قصر البرديات

كان اكتشاف برديات هيركولانيوم أحد أهم الاكتشافات الأثرية في العصر الحديث. تم العثور على هذه البرديات في أنقاض قصر فخم مدفون تحت الأرض، ويعتقد المؤرخون أنه كان مملوكاً لوالد زوجة يوليوس قيصر، لوسيوس كالبورنيوس بيزوكيسونينوس. وتتألف هذه المجموعة من حوالي 1800 مخطوطة نفيسة، ويرجح العلماء أن كاتبها هو الفيلسوف فيلوديموس، وجميعها قد تفحمت نتيجة ثوران بركان فيزوف المدمر، إلى جانب آلاف القطع الأثرية الأخرى. ويعود تاريخ اكتشاف هذه البرديات إلى القرن الثامن عشر الميلادي، وذلك أثناء أعمال التنقيب في المنطقة، وأطلق عليها اسم "برديات هيركولانيوم" نسبةً إلى المدينة التي دُفنت فيها.

كانت المحاولات الأولية لقراءة هذه البرديات محفوفة بالصعوبات والتحديات الجمة؛ وذلك بسبب تفحمها الشديد، حيث تحولت معظم اللفائف إلى رماد متفحم، مما جعل عملية استعادة المعلومات المحفوظة فيها شبه مستحيلة. ومع ذلك، وبفضل التقدم العلمي الهائل الذي نشهده اليوم، أصبح من الممكن للباحثين قراءة محتوى هذه البرديات بشكل لم يكن أحد يتوقعه من قبل.

ولا تزال هذه البرديات تخبئ في طياتها الكثير من الأسرار المدهشة والمعارف القيمة التي ستفيد البشرية جمعاء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة